الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأجاب الطحطاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الامتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو فقط فلا تحبس انتهى.وقيل: ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل.والمتبادر من الشهادة ما كان قولًا حقيقة، ولذا قالوا: لا لعان لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد، وعلل أيضًا بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقًا والحد يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرى في هذا الفصل كإشارته لا يعول عليها، وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق ولا حد، ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد، وبه قال مالك.وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادتها تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له، ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من المالكية، والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد الرمي، وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع، وهذا نظير ما قرره بعض أجلة الأصحاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية في بيان أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية، وظاهر الآية أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن تأتي بضمير المخاطب، ففي الهداية صفة اللعان أن يبتدىء به القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا والأصل فيه الآية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يأتي بلفظ المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا أي وتأتي هي بذلك أيضًا وتقول: إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وهو احتمال إضمار مرجع للضمير الغائب غير المراد، ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال، وعن الليث أنه يكتفي في اللعان بالكفيفة المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب بضمير المتكلم في شهادته مطلقًا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها الخامسة فتدخل على على يا الضمير، والمراد من الاكتفاء بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في شهادتها، وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت به في النظم الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل، وليس في الآية التفات أصلًا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر، وأما ما أشير من عدم الاحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلى الله عليه وسلم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض الروايات، وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي الولد بعد قوله: لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد وإنها تزيد بعد لمن الكاذبين قولها فيما رميتني به من نفي الولد: ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمران، ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول: أشهد بالله إني رأيتها تزني والملاعنة تقول أشهد بالله ما رآني أزني وعن الشافعي أن الزوج يقول: أشهد بالله إني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذٍ يقول الخامسة ويأتي بياء الضمير مع عَلَى وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدًا أو اثنين في كل شهادة، وإن نفى ولدها زاد وإن هذا الولد ولد زنا ما هو منى، والتخويف بالله عز وجل مشروع في حق المتلاعنين، فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له اتق الله تعالى واحذر عقابه فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب، وقيل: نحو ذلك لامرأته عند الخامسة أيضًا.وفي ظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة عند لعانها، والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع التلاعن ثبتت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة، ولو فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح، ويشترط كون التفريق بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله، ولو زالت أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلاّ لا، وقال زفر: تقع الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدًا وثبتت بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الأئمة الثلاثة، وأدلة هذه الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة، واستدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن قوله: {لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} [النور: 7] دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه عن التعيين، نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقًا فلو كان كاذبًا فلا يحل له، واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلًا من اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة وهو لا يكون إلا لكافر والغضب أعظم منه، وفيه أنه لا يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة الملعون، وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من اللعن والله تعالى أعلم.{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ}.التفات إلى خطاب الرامين والمرميات بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه، وجواب {لَوْلاَ} محذوف لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه، وهذا الحذف شائع في كلامهم.قال جرير:
ومن أمثالهم لو ذات سوار لطمتني فكأنه قيل: لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته سبحانه وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان مما لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضاحة، وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر إليها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة، فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتمًا دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية، وقد ابتلى الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على الصادق فظاهر؛ وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبىء عنه التعرض لعنوان توابيته تعالى فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته قاله شيخ الإسلام، وعن ابن سلام تفسير الفضل بالإسلام ولا يخفى أنه مما لا يقتضيه المقام، وعن أبي مسلم أنه أدخل في الفضل النهي عن الزنا ويحسن ذلك لو جعلت الجملة تذييلًا لجميع ما تقدم من الآيات وفيه من البعد ما فيه. اهـ.
|